يحدث أن نخاصمَ «أرواحَنا» على مدى سنوات عمرنا، نغاضبها، نشاكسها، نُحبطها، نجهضُ أحلامَها، نخيّب توقعاتِها فينا.. ثم يحدث فجأة، عند منتصف العمر غالبًا، أن ننتبه إلى أن الوقت قد حان لمصالحة تلك الروح التى عذّبناها عقودًا طوالا، فنمضى بقية أعمارنا فى التودد لها، وتدليلها، ورأب صدوعها والمحاولة للوصول، بها، ومعها، إلى حال اتزان وسلام، وفق معاهدة، قد تستمر إلى نهاية الحياة.
رحلةُ البحث عن ذلك السلام هى الرحلةُ التى قطعها عمر الحمزاوى فى رواية «الشحّاذ» لنجيب محفوظ. وهى الرحلةُ ذاتها التى قطعتها إليزابيث جيلبرت فى روايتها «Eat, Pray, Love» لتؤديها جوليا روبرتس على الشاشة فى فيلمها الأخير.
الرواية التى تصدّرت قائمة Best Seller فى أمريكا، وبيع منها ستة ملايين نسخة، قصّت فيها جيلبرت ١٠٨ حكايات ذاتية، بعدد حبّات خرز المسبحة الهندية، مقسّمة على ثلاثة فصول: الطعام، الصلاة، الحب، يحمل كلُّ فصل ٣٦ حكاية، مما ينتمى لأدب الرحلات، قطعتها من نيويورك، مدينتها، متجهة نحو الشرق، حيث روما الإيطالية، لتجرّب متعة تناول الطعام دون حساب السعرات الحرارية والخوف من شبح البدانة،
ثم تنزل جنوبًا نحو الشرق الأقصى حيث الهند، لتجرّب متعة الصلاة، والاعتكاف فى هيكل التأمل، وممارسة اليوجا وصولا إلى صفاء الذهن والروح. ثم تتوجه نحو جزيرة بالى الإندونيسية، لتجرب بهجة الحبّ وجنونه.
فيلمٌ ثرىٌّ بتعدد المشاهد فى أمكنة مختلفة من العالم، ومئات البشر من أعراق وجنسيات متباينة، ينتمون إلى حضارات وثقافات متنوعة، كان الرابط بينهم، جوليا روبرتس، ليزا، التى قطعت آلاف الأميال، بحثًا عن الاتزان الروحى، لتؤديها على أجمل ما يكون الأداء، بعينيها المشرقتين، كطفلة تتعرف على العالم، وعمق امرأة أربعينية وصلت إلى ذروة النضوج الوجودى، وشقاوة هِرّة لا تشبعُ من الحياة.
غريزة الطعام، تحقق التوازن الجسدى لدى الإنسان. متعةُ الصلاة، تحقق التوازن الروحانى. ثم عاطفة الحب تأتى لتجاور ما بين التوازنين معًا، فتصالح الجسد مع الروح، فيتحقق التوازن الكامل، المعادلة الوجودية الفريدة التى تزاوج ما بين الفضيلة والجمال.
ليز جيلبرت امرأة أربعينية من مدينة نيويورك، اكتشفت أن الزواج لم يصنع اتزانها، كما كانت تراهن، فقررت أن تهجر الزوج وتهيم شرقًا، بحثًا عن مصالحة «الروح» التى أحزنتها السنوات وشرّختها التجارب.
بدأ الأمر حينما تذكرت نكتة إيطالية قديمة تقول: «إن رجلا ذهب إلى كنيسة ووقف أمام تمثال قديس،
وقال له: أرجوك أرجوك أرجوك أريد أن أدخل الجنة. فعادت الروح إلى التمثال وقال: أرجوك أرجوك أرجوك إشترِ تذكرة». ففكرت ليز لنفسها: معى ثلاث تذاكر، لا واحدة.
ذهبت إلى روما، لتختبر متعة التهام طبق المكرونة الإسباجتى دون محاذير خبراء الرشاقة. فالحلّ بسيط، مجرد أن تنزل السوق وتشترى بنطلون جينز بمقاس أكبر.
راحت تتأمل كيف يعيش الإيطاليون بملء طاقاتهم، ويحركون أياديهم أثناء الكلام، وجربت مذهبهم الشهير: «متعة ألا تفعل شيئًا» وسرعان ما هجرت متعة الطعام، ونزحت للهند لتجرّب مباهج أخرى: متعة التأمل، ومتعة «الصمت» حيث يعلّق الشخص ورقة فوق صدره تقول: I am in silence، أنا فى حالة صمت، فيحترم الناس صمتَه ولا يلحّون فى الحديث.
وهناك تعلّمت الدرس الوجودى الأرقى: أن تتقبّل كلَّ إنسان تقابله، كمعلّم لك. ثم كانت على موعد فى جزيرة بالى للقاء العرّاف الإندونيسى الذى تنبأ لها قبل عام بأنها عائدةٌ إليه. تعرفت هناك على واين، المطلقة الفقيرة التى تربى ابنتها. فأرسلت ليز إيميلا جماعيًّا لأصدقائها فى نيويورك تخبرهم فيه بأنها تود أن تكون هدية عيد ميلادها الوشيك هى التبرع لتلك المرأة لتشترى منزلاً يقيها وابنتها «توتى» عذاب التشرد، وهو ما كان.
فكان كأنما تبرعوا لكل البشر، حيث اسم «توتى» بالإيطالية يعنى «كل الناس».
وحين كان لقاؤها مع الحب الحقيقى الذى تجسد فى رجل من إندونيسيا، وقتها فقط أخبرها العراف بأنها نجحت فى تحقيق التوازن الداخلى، لأن ضحكتها لم تعد تخرج من الوجه. بل من الكبد. وكذلك وجدت الإجابة عن سؤال عمرها الوجودى الذى ظل يحوّم دون إجابة أربعين سنة: ما الذى تريده ليز؟
ريفيو